كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

ثم يقال له وقد قابل ما رويت أخبار هي أصح وأثبت في النظر والمصير إليها أولى لموافقة ظاهرها لكتاب الله تعالى.

فمنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بحيث يراه أصحابه ثم توضأ فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه.

: ومنها أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام قال للناس في الرحبة ألا أدلكم على وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قالوا بلى فدعا بعقب فيه ماء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث حدثا.

فإن قال الخصم ما مراده بقوله :

وضوء من لم يحدث حدثا وهل هذا إلا دليل على أنه قد كان على وضوء قبله؟

قيل له مراده بذلك أنه الوضوء الصحيح الذي كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس هو وضوء من غير وأحدث في الشريعة ما ليس منها.

ويدل على صحة هذا التأويل وفساد ما توهمه الخصم أنه قصد أن يريهم فرضا يعولون عليه وتقيدون به فيه ولو كان على وضوء قبل ذلك لكان لم يعلمهم الفرض الذي هم أحوج إليه.

: ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليهم السلام من قوله :

ما نزل القرآن إلا بالمسح.

ولا يجوز أن يكون أراد بذلك إلا مسح الرجلين لأن مسح الرءوس لا خلاف فيه.

ومنه قول ابن عباس رحمه‌الله

نزل القرآن بغسلين ومسحين

ومن ذلك إجماع آل محمد عليهم السلام على مسح الرجلين دون غسلهما وهم

١٦١

الأئمة والقدوة في الدين لا يفارقون كتاب الله عزوجل إلى يوم القيامة (١) وفيما أوردناه كفاية والحمد لله

سؤال

فإن قال قائل فلم ذهبتم في مسح الرأس والرجلين إلى التبعيض؟

جواب

قيل له لما دل عليه من ذلك كتاب الله سبحانه وسنة نبيه ص.

أما دليل مسح بعض الرأس فقول الله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فأدخل الباء التي هي علامة التبعيض وهي التي تدخل على الكلام مع استغنائه في إفادة المعنى عنها فتكون زائدة لأنه لو قال وامسحوا رءوسكم لكان الكلام صحيحا ووجب مسح جميع الرأس فلما دخلت الباء التي لم يفتقر الفعل في تعديته إليها أفادت التبعيض.

وأما دليل مسح بعض الأرجل فعطفها على الرءوس والمعطوف يجب أن يشارك المعطوف عليه في حكمه.

وأما شاهد ذلك من السنة فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ومسح بناصيته ولم يمسح الكل.

ومن الحجة على وجوب التبعيض في مسح الرءوس والأرجل إجماع أهل البيت عليهم السلام على ذلك وروايتهم إياه عن رسول الله جدهم صلى الله عليه وآله وسلم وهم أخبر بمذهبه

سؤال

فإن قال قائل ما الكعبان عندكم اللذان تمسحون عليهما؟

_________________

(١) هو إشارة إلى الحديث المشهور المستفيض : «إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض ..». رواه مسلم والبيهقيّ والحاكم في المستدرك والنسائي في الخصائص وأحمد في المسند ، وابن سعد في الطبقات والهندي في كنز العمّال ، وغيرها. انظر : (فضائل الخمسة ج ٢. صلى الله عليه وآله وسلم ٤٣ = ٥٢).

١٦٢

جواب

قيل له العظمان النابتان في ظهر القدمين عند عقد الشراك وقد وافقنا على ذلك محمد بن الحسن (١) دون من سواه.

دليلنا : ما رواه أبان بن عثمان عن ميسر عن أبي جعفر عليهم السلام أنه قال :

ألا أحكي لك وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم انتهى إلى أن قال فمسح رأسه وقدميه ثم وضع يده على ظهر القدم (٢)

* * *

ثم قال (٣) وذكرت فأوجزت وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا أو سمعناه بآذاننا أو ذقناه بأفواهنا أو شممناه بأنوفنا أو لمسناه ببشرتنا.

فقال الصادق عليهم السلام :

ذكرت الحواس الخمس وهي لا تنفع في الاستنباط إلا بدليل كما لا يقطع الظلمة إلا بمصباح (٤).

قال شيخنا المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رضي الله عنه :

_________________

(١) هو محمّد بن الحسن بن واقد الشيباني مولى بني شيبان وصاحب أبي حنيفة ولد بواسط سنة ١ ٣٢ ه ومات بالري سنة ١ ٨٩ ه أخذ عن أبي حنيفة والثوري ومسعر بن كدام والأوزاعي ومالك.

(٢) اختصر المؤلّف هذا الحديث ، ويبدو أنّه قد سقط من النسخة طائفة كبيرة من بحث كيفية الوضوء.

(٣) قد سقط من النسخة أوائل الحديث الثاني المتعلق بحدوث العالم واثبات الصانع.

(٤) أول الحديث هو أنّه سأل أبو شاكر الديصاني الإمام الصادق فقال له : ما الدليل على حدوث العالم ، فقال (عليهم السلام) : نستدل عليه بأقرب الأشياء ، قال : وما هو؟ قال فدعا (عليهم السلام) بيضة فوضعها على راحته ، فقال : هذا حصن ملموم داخله غرقى رقيق لطيف ، به فضة سائلة وذهبة مائعة ، ثمّ تنغلق عن مثل الطاوس ، أدخلها بشيء؟ فقال : لا ، قال : فهذا الدليل على حدوث العالم.

قال : أخبرت فأوجزت وقلت فأحسنت ، وقد علمت ..» انظر : توحيد الصدوق صلى الله عليه وآله وسلم ٣٠٣.

١٦٣

إن الصادق عليهم السلام أراد أن الحواس بغير عقل لا توصل إلى معرفة الغائبات وإن الذي أراه من حدوث الصورة معقول بنا لوقوع العلم به على محسوس (١).

واعلم أيدك الله تعالى أن الأجسام إذا لم تخل من الصور التي قد ثبت حدوثها فهي محدثة مثلها (٢)

فصل في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصف شيء من فضله

روى نقلة الأخبار وحملة الآثار من الخاص والعام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :

أنا سيد ولد آدم وأنا سيد البشر

وقال أمير المؤمنين عليهم السلام ما برأ الله نسمة خيرا من محمد ص :

وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :

نقلت من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة نكاحا لا سفاحا.

وروي عن الصادق جعفر بن محمد عليهم السلام أنه قال :

نزل جبرئيل عليهم السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول :

إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وثدي أرضعك.

وروي أن نوره صلى الله عليه وآله وسلم كان يلوح في جبهة آدم عليهم السلام وأن الله سبحانه أعلم بحاله وبين أمره وعهد إليه أن لا يقرب حواء إلا وهما طاهران لأجل انتقال ذلك النور إلى ولده وأن عهدا باقيا في عقبه يأخذه كل أب منهم على

_________________

(١) في العبارة قلق يحول دون وضوح المعنى ولعلّ هنا سقوط جملة أو جمل من قلم الناسخ.

(٢) ذلك لأن الجسم أو الهيولى حيث وجدت تكون في صورة ما ، ولا يوجد بدون صورة ، والصورة متغيرة إذن الجسم متغير فهو محدث ، ولذلك قال الفلاسفة : إن شيئية الشيء بصورته لا بمادته.

١٦٤

ابنه ممن يظهر نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه بأنه لا يتزوج إلا بأطهر نساء أهل وقته حراسة لهذا النور ألا ينتقل إلا في درجات الشرف ومنازل الطهارة من الدنس فلم يزل نوره منتقلا فيهم ظاهرا بين أعينهم يدركه الناس بالمشاهدة ويرون خلو الوالد منه إذا انتقل إلى ولده وهو يزداد بالانتقال بيانا ويتضاعف بالموارثة برهانا إلى أن انتهى إلى عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف رضوان الله عليهم فعظم في وجهه وأضاء في غرته وعلمت حاله الأحبار وأخبرت بأمره الكهان وذاع خبره في البلاد.

حتى روي (١) أن أحبار يهود الشام كانت عندهم جبة مغموسة في دم يحيى بن زكريا عليهم السلام وكانوا قد وجدوا في كتبهم أن إذا رأيتم الجبة بيضاء والدم يقطر فاعلموا أن أبا النبي محمد المصطفى قد ولد فلما رأوا ذلك من حالها تحققوا ولادة عبد الله بن المطلب عمدوا بأجمعهم إلى الحرم ليغتالوه ويغتنموا الظفر به فيقتلوه فصرف الله سبحانه عنه كيدهم وردهم خائبين إلى بلادهم وكانوا إذا سألوا عنه قيل لهم تركناه نورا يتلألأ في قريش تلألؤ القمر فيقول الأحبار ليس ذلك النور لعبد الله إنما هو لولده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم ترجع في كفرها وعنادها فإذا تأملت الحال وأفاقت للاستدلال قالت هو هو ورب موسى.

وقيل إن الكهنة اجتمعت فقالت نحن نتخوف لتزايد نور عبد الله أن يغلب كهانتنا.

وروي أن نساء قريش افتتن به وكن يتعرضن به في طريقه حتى لقي منهن ما لقي يوسف عليهم السلام من امرأة العزيز وهو لا يلوي عليهن ويقول لهن ليس في سبيل إلى كلامكن (٢).

حتى ورد في الحديث أن الجوار الأبكار كن يقفن في طريقه وإذا رمن

_________________

(١) تجد شطرا من هذه الرواية في مناقب آل أبي طالب ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٢٧.

(٢) تجد شطرا من هذا الخبر في كتاب اثبات الوصية للمسعودي صلى الله عليه وآله وسلم ٨٨ = ٨٩.

١٦٥

كلامه تصورت الملائكة لهن في صورة مفزعة يصدونهن عنه فيرجعن مذعورات فزعات.

ثم إن وهب بن عبد مناف لما رأى عظم أمره وجلالة قدره اجتهد في تزويجه آمنة ابنته وراسل في ذلك عبد المطلب رضوان الله عليه فزوجه بها ونقل الله تعالى نور نبيه إليها فحملت به في ليلة الجمعة لتسع خلون من ذي الحجة ليلة عرفة وقيل بل في أيام التشريق (١) وذلك بمنى عند الجمرة الوسطى وكانت منزل عبد الله بن عبد المطلب.

فروي عنها من الآيات التي شاهدتها ليلة حملها به وعند ولادتها ما يطول ذكره.

فكان مما قالت إنه أتاني المخاض وأنا وحدي فلما وضعته صلى الله عليه وآله وسلم رأيته ساجدا قد رفع إصبعه إلى السماء كالمبتهل المتضرع ثم غشتني سحابة غيبته عن عيني وسمعت منها كلاما ثم أعيد إلي وهو مدرج في ثوب صوف أشد بياضا من الثلج وتحته حريرة خضراء وولد صلى الله عليه وآله وسلم طاهرا مطهرا.

فكان من دلائل ولادته خمود نيران المجوس وتزعزع أسرة الملوك وكلام كثير من الدواب وسقوط الأوثان عن البيت الحرام.

وروي عن عبد المطلب أنه قال :

كنت في تلك الليلة في البيت الحرام أرم منه شيئا فلما انتصف الليل رأيته قد أهوى من جميع جوانبه مائلا كالساجد إلى ناحية المقام ثم استوى قائما وسمعت منه تكبيرا عجبا يقول الله أكبر رب محمد المصطفى الآن قد طهرني ربي من أنجاس المشركين وأرجاس الجاهلية فحرت من ذلك حتى ظننت أني نائم.

ثم إن عبد المطلب أتى آمنة رضوان الله عليها فسألها عن حالها فأخبرته بولادتها والآيات التي رأتها فقال لها أريني الولد فقالت لا سبيل لأحد إلى

_________________

(١) هي ثلاثة أيّام يبتدئ أولها ثاني يوم النحر وآخرها اليوم الثالث عشر من ذي الحجة إلى العصر.

١٦٦

رؤيته حتى تمضي ثلاثة أيام فعند ذلك جرد سيفه ليقتل نفسه فقالت هو في ذلك البيت ادخل إن أحببت أن تراه فلما دخل عبد المطلب تراءى له رجل وقال إليك يا عبد المطلب لا سبيل لك إلى رؤيته حتى تنقطع عنه زيارة الملائكة.

وكانت ولادته صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة عند طلوع الفجر في اليوم السابع عشر (١) من ربيع الأول عام الفيل (٢) بمكة في شعب أبي طالب رضوان الله عليه.

وهذا اليوم الذي ولد فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عظيم الشرف جليل القدر لم يزل آل محمد عليهم السلام يعظمونه ويرعون حرمته ويتطوعون بصيامه والصدقة فيه.

وروي أن من صامه كتب الله له صيام سنة.

ولما صار له صلى الله عليه وآله وسلم شهران توفي أبوه عبد الله بن عبد المطلب رضوان الله عليه عند أخواله بالمدينة.

وكذلك ماتت أمه رحمة الله عليها وهو طفل.

وروي أن الله تعالى أيتم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لئلا تجري عليه رئاسة لأحد من الناس.

وشرف الله تعالى حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية برضاعة وخصها بتربيته وكانت ذات عقل وفضل فروت من آياته ما يبهر عقول السامعين وأغناها الله ببركته في الدنيا والدين.

وكان لا يرضع إلا من ثديها اليمين.

قال ابن عباس رضي الله عنه ألهم العدل حتى في رضاعه لأنه علم أن له شريكا فناصفه عدلا منه (ص).

_________________

(١) وهو المشهور بين الشيعة الإماميّة ، وقيل في اليوم الثاني عشر من ربيع الأوّل وهو المعروف بين الجمهور وبه قال أبو جعفر الكليني من الإماميّة ، وقيل لثمان خلون من شهر ربيع الأوّل ، وقيل لعشر خلون منه.

(٢) وذلك بعد قدوم أصحاب الفيل مكّة بخمسة وستين يوما ، وقيل أقل من ذلك وكان قدومهم مكّة يوم الأحد لخمس ليال خلون من المحرم.

١٦٧

قالت حليمة فكان ثديي اليمين لرسول الله واليسار لولدي ضميرة وكان ولدي لا يشرب حتى يراه قد شرب.

قالت ولم أر قط ما يرى للأطفال طهارة ونظافة وإنما كان له وقت واحد ثم يعود إلى وقته من الغد.

وما كان شيء أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفا فكنت إذا كشفته يصيح حتى أستر عليه.

وروي عنها أنها قالت سمعته لما تمت له سنة يتكلم بكلام لم أسمع أحسن منه سمعته يقول قدوس قدوس نامت العيون والرحمن (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).

ولقد ناولتني امرأة كف تمر من صدقة فناولته منه وهو ابن ثلاث سنين فرده علي وقال يا أمه لا تأكلي الصدقة فقد عظمت نعمتك وكثر خيرك فإني لا آكل الصدقة.

قالت فو الله ما قبلتها بعد ذلك من أحد من العالمين.

وكان بنو سعد يرون البركات بمقامه معهم وسكناه بينهم حتى أنهم كانوا إذا عرض لدوابهم بؤس أتوا بها إليه ليمسها بيده فيزول ما بها وتعود إلى أحسن حالها.

ولم يزل كذلك إلى أن ردته حليمة إلى أهله فاشتمل عليه جده عبد المطلب يحبوه التحف ويمنحه الطرف ويعد قريشا به ويخبرهم بما يكون من حاله إلى أن دنت وفاته فوضعه في حجر أبي طالب وأوصاه به وأمره بحياطته ورعايته وعرفه ما يكون من أمره.

ثم توفي عبد المطلب رضوان الله عليه في شهر ربيع الأول وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثماني سنين من عمره فكفله أبو طالب أحسن كفالة ولم يكن له يومئذ ولد وكانت امرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم المعروفة بسودة الفاضلة فتولت معه تربيته وأحسنا جميعا حياطته ورعايته واتخذاه لأنفسهما ولدا ولم يؤثرا عليه في المحبة ولدا وقد شغفا بواضح دلالته وذهلا من ظاهر حجته

١٦٨

والكهان مع ذلك يخبرونه بشأنه ويتعجبون من جلي برهانه ويبشرون أبا طالب بأمره وبأنه سيكفل ولدا له من ظهره.

ثم نشأ صلى الله عليه وآله وسلم نشوءا يحير أهل عصره يحضر مشاهد قريش كلها غير السجود للأصنام والعبادة (١) لها وشرب الخمر ونظم الشعر وافتعال الكذب والاشتغال باللعب إلى أن أظهر الله أمره وأعلى قدره (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا).

فصل في ذكر شيء من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباهر آياته

فمن ذلك أنه دعا شجرة فجاءت تخد الأرض ثم أشار إليها فرجعت.

ومن ذلك أنه مسح شطري ضرع العناق (٢) وهما ملتصقان لا لبن فيهما فدر وحلب منه لبن كثير هذا في هجرته إلى المدينة وذلك مشتهر قد أتت به الأخبار وقيل فيه الأشعار.

ومن ذلك رمي الحصى في وجوه الأعداء يوم بدر فنالهم في عيونهم ما نالهم وكانت في الحال عزيمتهم وأنزل الله سبحانه :

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الأنفال : ١٧.

وفعل مثل ذلك يوم حنين وقال :

شاهت الوجوه فانهزم المشركون بأسرهم.

ومن ذلك إخباره عن العير التي جاءت من الشام وحال القوم وأفعالهم وما معهم من متاعهم وكثير من كلامهم.

ومن ذلك كلام الذئب والضب أيضا معروف.

ومن ذلك الميضاة (٣) التي وضع فيها يده وفيها شيء يسير من الماء فشرب منه خلق كثير وتوضئوا منه.

_________________

(١) في النسخة كلمة غير واضحة

(٢) هي الأنثى من أولاد المعزى قبل استكمالها الحول.

(٣) هي المطهرة الكبيرة التي يتوضأ منها.

١٦٩

ومن ذلك أن ناقة ضلت من صاحبها في بعض أسفاره فقال المنافقون لو كان نبيا لعلم أين الناقة فبلغه ذلك فقال الغيب لا يعلمه إلا الله انطلق يا فلان لصاحب الناقة فإن ناقتك بمكان كذا قد تعلق زمامها بالشجرة فوجدها كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن ذلك أنه أقام عليهم السلام بتبوك فنفدت أزوادهم فأمرهم عليهم السلام فجمعوا ما بقي منها ثم أمر بأنطاع فبسطت وقال من كان عنده فضل زاد فليأتنا به فكان الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق والقليل من الخبز فيوضع كل صف على حدة فكان جميع ذلك قليلا ثم توضأ وصلى ودعا بالبركة فيه فكثر ذلك حتى فاض من الأنطاع ثم نادى الناس أن هلموا فأقبل الناس فحملوا من كل شيء حتى ملئوا كل جراب ومزود

ومن ذلك أنه نزل بالحديبية فإذا ببئرها لا ماء فيها فشكا الناس ذلك إليه صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج سهما من كنانته فدفعه إلى البراء بن عازب فنزل في البئر فأقبل الماء من عيون البئر حتى ملئوا كل ما معهم وسقوا ركائبهم. (١)

ومن ذلك أنه كان في سفر فاستيقظ من نومه فقال مع من وضوء فقال أبو قتادة معي في ميضاة فأتاه به فتوضأ وفضلت في الميضاة فضله فقال عليهم السلام احتفظ بها يا أبا قتادة فسيكون لها شأن فلما حمى النهار واشتد العطش بالناس فابتدروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون الماء الماء فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدحه ثم قال هلم الميضاة يا أبا قتادة فأخذها ودعا فيها وقال اسكب فسكب في القدح وابتدر الناس الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلكم يشرب إن شاء الله تعالى فكان أبو قتادة يسكب ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسقي حتى شرب الناس أجمعون ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي قتادة اشرب فقال لا بل اشرب أنت يا رسول الله فقال اشرب فإن ساقي القوم آخرهم يشرب فشرب أبو قتادة ثم شرب رسول الله وانتهى القوم رواء.

_________________

(١) تجد هذه المعجزة مفصلة في كتاب اعلام النبوّة صلى الله عليه وآله وسلم ٦٨.

١٧٠

ومن ذلك أنه أتي بشاة فأخذ بأذنها بين إصبعيه ثم خلاها فصار لها وسم (١) وكانت تولد والأثر في أولادها.

ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال أصاب الناس يوم الخندق كدية (٢) ضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بماء فصبه عليها فصارت كثيبا (٣).

ومن ذلك أن أعرابيا باع شيئا من أبي جهل فمطله فأتى قريشا فقال أعدوني على أبي الحكم فقد لوى بحقي فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا أنت هذا الرجل فاستعد عليه وهم يهزءون بالأعرابي ويريدون أن يغروا أبا جهل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا عبد الله أعدني على عمرو بن هشام فقد مطلني حقي قال نعم فمضى معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضرب على أبي جهل بابه فخرج متغيرا فقال ما حاجتك فقال أعط هذا الرجل حقه قال نعم الساعة فأعطاه فجاء الرجل إلى قريش فقال جزاكم الله خيرا انطلق معي الرجل الذي دللتموني عليه فأخذ لي حقي وجاء أبو جهل فقالوا أعطيت الأعرابي حقه قال نعم قالوا إنما أردنا أن نغريك بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قال ما هو إلا أن دق بابي وسمعت كلامه فما تمالكت أن خرجت إليه وخلفه مثل الفالج (٤) فاتح فاه فكأنما يريدني فقال أعطه حقه فلو قلت لا لابتلع رأسي. (٥)

_________________

(١) أي علامة

(٢) الكدية هي الصخرة الصلدة.

(٣) تجد هذه المعجزة مفصلة في اعلام النبوّة للماوردي صلى الله عليه وآله وسلم ٦٦ = ٦٧ نقلها عن البخاري عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر.

(٤) الفالج : الجمل الضخم ذو السنامين ، وفي رواية ابن هشام : وإن فوق رأسه لفحلا.

(٥) رواه ابن هشام في السيرة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٤١ ٦ = ٤١ ٧ مع اختلاف يسير.

١٧١

ومن ذلك أن أبا جهل جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حجر يريد أن يرميه به إذا سجد فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع أبو جهل يده فيبست على الحجر فقالوا له أجبنت قال لا ولكن رأيت بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه.

وهذا الحديث مشهور وفيه يقول أبو طالب رضوان الله عليه :

أفيقوا بني غالب وانتهوا

عن الغي في بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذا خائف

بواثق في داركم تلتقي

تكون لعابركم عبرة

ورب المغارب والمشرق

كما ذاق من كان من قبلكم

ثمود وعاد فمن ذا بقي

غداة أتتهم بها صرصر

وناقة ذي العرش إذ تستقي

فحل عليهم بها سخطة

من الله في ضربة الأزرق

غداة يعض بعرقوبها

حسام من الهند ذو رونق

وأعجب من ذاك في أمركم

عجائب في الحجر الملصق

يكف الذي قام من جبنه

إلى الصابر الصادق المتقي

فأيبسه الله في كفه

على رغم ذي الخائن الأحمق

_________________

(١) في النسخة كلمة غير واضحة.

١٧٢

وهذا مما يستدل به على صحيح إيمان أبي طالب بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لما تضمنه قوله من إقراره بالله سبحانه واعترافه بآياته وبالمعجز الذي بان لنبيه وإخباره عنه بأنه صابر صادق متقي.

ومن ذلك أن امرأة سلام بن مسكين أتت بشاة قد سمتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ما هذا فقالت ألطفك بها وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر بن البراء بن المعرور فتناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذراع وتناول بشر فأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لاكها ثم لفظها وقال إن هذه الذراع تكلمني وتزعم أنها مسمومة وأما بشر فلاك البضعة ليبلعها فمات منها فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المرأة فأقرت فقال ما دعاك إلى هذا قالت قتلت زوجي وأشراف قومي فقلت إن كان ملكا قتلته وإن كان نبيا فسيطلعه الله على ذلك. (١)

ومن ذلك أن صفوان بن أمية وعمرو بن وهب الجمحي قالا من لنا بمحمد فقال عمرو بن وهب لو لا دين علي لخرجت إلى محمد حتى أقتله فقال صفوان علي دينك ونفقة عيالك إن قتلته فخرج حتى قدم المدينة فدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أنعم صباحا أبيت اللعن فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أبدلنا الله بها خيرا منها قال إن عهدك بها حديث قال أجل ثم أكرمنا الله بالنبوة ثم قال يا عمرو ما جاء بك قال ابني أسير عندكم قال لا ولكنك جلست مع صفوان ثم قص عليه الذي قال فقال عمرو والله ما حضرنا أحد وما أتاك بهذا إلا الذي يأتيك بأخبار السماء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. (٢)

ومن ذلك أن المدينة أجدبت فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرفع يديه إلى السماء وقال :

اللهم إني سألتك فأعطيتني ودعوتك فأجبتني اللهم اسقنا غيثا مريا

_________________

(١) أشير إلى هذا في مناقب آل أبي طالب ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٨١.

(٢) تجد هذا مختصرا في مناقب آل أبي طالب ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ١ ١ ٣.

١٧٣

مريعا عاجلا غير رائث نافعا غير بائث نافعا غير ضار فمطر الناس للوقت وسالت الأودية وامتلأ كل شيء فدامت جمعة.

فأتى رجل فقال غرقنا وتقطعت السبل في أسواقنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حوالينا ولا علينا.

فانجاب السحاب عن المدينة وكان فيما حولها حتى حصلت السماء فوقها والسحاب ذلك. (١)

فقال كل واحد منهم في نفسه آمنت إذا مضيت أن يأتي أحد غيري فيشعر بي فاجتمعوا بأسرهم لاتفاق ما في نفوسهم ولما أزعجهم من التعجب لاستماع ما حيرهم وأذهلهم فوقفوا إلى الصباح فلما انصرفوا اجتمعوا أيضا وافتضح بعضهم عند بعض وجددوا العهد بينهم ثم عادوا حتى فعلوا ذلك عدة دفعات تطلعا إلى سماع القرآن مع ما هم عليه من الإصرار على العناد.

وأما تعجب الجن فقولها :

(إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) سورة الجن : ١

فصل من البيان عن إعجاز القرآن

فمن ذلك عجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثله في فصاحته ونظمه مع علمهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعله علما على صدقه وسماعهم للتحدي فيه على أن يأتوا بسورة من مثله هذا مع اجتهادهم في دفع ما أتى به صلى الله عليه وآله وسلم وتوفر دواعيهم إلى إبطال أمره وفل جمعه واستفراغ مقدورهم في أذيته وتعذيب أصحابه وطرد المؤمنين به.

ثم ما فعلوه بعد ذلك من بذل النفوس والأموال في حربه والحرص على إهلاكه مع علمهم بأن ذلك لا يشهد بكذبه ولا فيه إبطال الحجة ولا يقوم مقام معارضته فيما جعله دلالة على صدقه وتحداهم على الإتيان بمثله.

_________________

(١) تجد هذا في مجالس المفيد صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٣٩ رواها بإسناده عن مسلم الغلابي مع زيادات.

١٧٤

وقد كانوا قوما فصحاء حكماء عقلاء خصماء لا يصبرون على التقريع ولا يتغاضون عن التعجيز وعاداتهم معروفة في التسرع إلى الافتخار وتحدي بعضهم لبعض بالخطب والأشعار وفي انصرافهم عن المعارضة دلالة على أنها كانت متعذرة عليهم وفي التجائهم إلى الحروب الشاقة دونها بيان أنها الأيسر عندهم.

وأي عاقل يطلب أمرا فيه هلاك حاله والتغرير بنفسه وهو يقدر على كلام يقوله يغنيه بذلك وينال به أمله ومراده فلا يفعله.

هذا ما لا يتصور في العقل ولا يثبت في الوهم وفي عجزهم الذي ذكرناه حجة في بيان معجز القرآن وفي صحة نبوة نبينا ص.

ومن ذلك ما يتضمنه من أخبار الدهور الماضية وأحوال القرون الخالية وأبناء الأمم الغابرة ووصف الديار الداثرة وقصص الأنبياء المتقدمين وشرح أحكام أهل الكتابين مما لا يقدر عليه إلا من اختص بهم وانقطع إلى الاطلاع بكتبهم وسافر في لقاء علمائهم وصحب رؤساءهم.

ولما كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم معلوم المولد والدار والمنشأ والقرار لا تخفى أحواله ولا تستتر أفعاله لم يلف قبل بعثته مدارسا لكتاب ولا رئي مخالطا لأهل الكتاب ولم يزل معروفا بالانفراد عنهم غير مختص بأحد منهم ولا سافر لاتباع عالم سرا ولا جهرا ولا احتال في نيل ذلك أولا ولا آخرا علم أنه لم يأخذ ذلك إلا عن رب العالمين دون الخلائق أجمعين وثبت صدقه وحجته وإعجاز الوارد على يده وكان قول الله عزوجل:

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) سورة القصص : ٤٤

وقوله عزوجل:

_________________

(١) في النسخة الشرع

(٢) في النسخة (فيه بما)

(٣) في النسخة (المولود)

١٧٥

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) سورة القصص : ٤٦.

يعضد ما ذكرناه ويشهد بصحة ما وصفناه.

ومن ذلك أيضا ما ثبت فيه من الإخبار بالكائنات قبل كونها وإعلام ما في القلوب وضمائرها كقوله سبحانه في اليهود من أهل خيبر :

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ). سورة آل عمران : ١١١

وكان الأمر في هزيمتهم وخذلانهم كما قال سبحانه.

وقال في قصة بدر تشجيعا للمسلمين وإخبارا لهم عن عاقبة أمرهم وأمر المشركين :

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). سورة القمر : ٤٥

وكان ذلك يقينا كما قال سبحانه.

وقال فيهم :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ). سوةر الانفال : ٣٦

فكان الظفر قريبا كما قال سبحانه.

وقال عز اسمه :

(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) سورة الروم : ٢ و ٣.

فأخبر الله تعالى عن ظفرهم بغلبهم وغلبتهم له وحدد زمان ذلك وحصره فكان الأمر فيه حسب ما قال سبحانه.

وقال عزوجل :

١٧٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) سورة الجمعة : ٦ و ٧.

فقطع على بغيهم وأعلم أنهم لا يتمنون الموت فلم يقدر أحد منهم على دفعه ولا أظهر تمنيه كان الأمر في ذلك موافقا لما قال سبحانه.

وقال تعالى :

(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) سورة المجادلة : ٨.

فأخبر عن ضمائرهم بما في سرائرهم قبل أن يبدو على ألسنتهم وكان الأمر كما قال سبحانه.

وقال في أبي لهب وهو حي متوقع منه الإيمان والبصيرة والإسلام :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) سورة المسد : ١

فمات على كفره ولم يصر إلى الإسلام.

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم :

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) سورة الحجر : ٩٥.

وكلهم يومئذ حي عزيز في قومه فأهلكهم الله أجمعين وكفاه أمرهم على ما أخبر به.

وأمثال ذلك كثيرة يطول بها الكتاب وقد ذكرها أهل العلم وهذا طرف منها يدل على معجزة القرآن وصدق من أتى به عليهم السلام.

دليل على حدوث العالم

الذي يدلنا على ذلك أنا نرى أجساما لا تخلو من الأحداث المتعاقبة عليها

_________________

(١) تجد ذلك في أكثر المؤلّفات الموضوعة في حياته ومعجزاته وكراماته واعجاز القرآن من الشيعة والسنة على السواء.

١٧٧

ولا يتصور في العقل أنها كانت خالية منها وهذا يوضح أنها محدثة مثلها لشهادة العقل بأن ما لم يوجد عاريا من المحدث فإنه يجب أن يكون مثله محدثا.

وهذه الحوادث هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والألوان والروائح والطعوم ونحو ذلك من صفات الأجسام التي تدل على أنها أشياء غير الجسم ما نراه من تعاقبها عليه وهو مع كل واحد منها وهذا يقين أيضا على حدوثها لأن الضدين المتعاقبين لا يجوز أن يكونا مجتمعين في الجسم ولا يتصور اجتماعهما في العقل وإنما وجد أحدهما وعدم الآخر فالذي طرأ ووجد هو المحدث لأنه كائن بعد أن لم يكن والذي انعدم أيضا محدث لأنه لو كان غير محدث لم يجز أن ينعدم ولأنه مثله أيضا قد تجدد وحدث.

والذي يشهد بأن الأجسام لم تخل من هذه الحوادث بداية (١) العقول وأوائل العلوم إذ كان لا يتصور فيها وجود الجسم مع هذه الأمور.

ولو جاز أن يخلو الجسم منها فيما مضى لجاز أن يخلو منها الآن وفيما يستقبل من الزمان.

والذي يدل على أن حكم الجسم كحكمها في الحدوث أن المحدث هو الذي لوجوده أول والقديم هو المتقدم على كل محدث وليس لوجوده أول فلو كان الجسم قديما لكان قبل الحوادث كلها خاليا منها.

وفيما قدمناه من استحالة خلوه منها دلالة على أنه محدث مثلها والحمد لله.

_________________

(١) المراد به البداهة العقليّة.

١٧٨

فصل

في الأشعار المأثورة عن أبي طالب بن عبد المطلب ره

التي يستدل بها على صحة إيمانه

من ذلك قوله في قصيدته اللامية

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد

وأحببته حب الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه وحميته

ودارأت عنه بالذرا والكلاكل

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها

وشيئا لمن عاداه زين المحافل

حليما رشيدا خازما غير طائش

يوالي إله الخلق ليس بماحل

فأيده رب العباد بنصره

وأظهر دينا حقه غير باطل

لقد علموا أن ابننا لا مكذب

لدينا ولا يعنى بقيل الأباطل (١)

ومن قطعة ميمية

ترجون أن نسخى بقتل محمد

ولم نختضب سحر العوالي من الدم

كذبتم وبيت الله حتى تغرفوا

جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

_________________

(١) هذه الأبيات من قصيدة طويلة أوردها ابن هشام في السيرة ج ١ صلى الله عليه وآله وسلم ٢٨٦ = ٢٩٨ مع اختلاف يسير.

١٧٩

وتقطع أرحام وتنسى حليلة

حليلا ويغشى محرما بعد محرم

وينهض قوم في الحديد إليكم

يذودون عن أحسابهم كل مجرم

على ما أتى من بغيكم وضلالكم

وغشيانكم في أمرنا كل مأتم

بظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى

وأمر أتى من عند ذي العرش مبرم

فلا تحسبونا مسلميه ومثله

إذا كان في قوم فليس بمسلم

وقوله أيضا :

أخلتم بأنا مسلمون محمدا

ولما نقاذف دونه بالمراجم

أصبنا حبيبا في البلاد مسوما

بخاتم رب قاهر للجراثم

يرى الناس برهانا وهيبة

وما جاهل في فعله مثل عالم

نبي أتاه الوحي من عند ربه

فمن قال لا يقرع بها سن نادم

تطيف به جرثومة هاشمية

يذبون عنه كل باغ وظالم

وقوله أيضا :

ألا أبلغا عني على ذات بينها

لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

١٨٠